السابعة صباحاً , بعض طلاب المدارس يتسكعون في الشوارع وايديهم فارغة, ذهابهم الى المدرسة كرياضة الصباح , يتفقدون جدران المدرسة ألا زالت باقية أم هي الأخرى اعتكفت؟؟ لا أماكن أخرى يذهبون اليها في صباحات أيلول سوى المدرسة , الساحات رابضة هناك لا زالت , ومكبرات الصوت لم تعد ترسل النشيد الوطني الى منازلنا أو حتى كلمات الطلاب الصباحية, فالجميع اعتكف, لا عمل دون كفاف قوتهم . ليست المدارس وحدها الفارغة, بل جميع المرافق الحكومية من ضمنها المستشفيات . هكذا طالعنا أيلول , فالنزاع السياسي المحموم , بين فتح السلطة وحماسة الحكومة , وصراع بقائهم هذا يتسلح بأخر ما بقي لنا نحن الفلسطينين من ذخيرة المستقبل .حتى زمن قريب اعتبر التعليم مفخرة الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال واللجوء, فالطالب الفلسطيني ركيزة تعليمية ووطنية لا يستهان بها . هم من حققوا المستوى التعليمي العالي وارتادوا الجامعات في معظم دول العالم , وحدهم الطلاب قادرون على قيادة التظاهرات والاضرابات, ومواجهة الجنود في الأزقة والساحات. المعلمون من ضمن موظفي الحكومة الذين لم يستلموا رواتبهم منذ بدأ الحصار الدولي مادياً وسياسياً على الحكومة المنتخبة , التي يستهويني تشبيهها باسطول المسلمين من المغرب الى اسبانيا , وقائده طارق بن زياد صاحب مقولة البحر من ورائكم والعدو من أمامكم , فحرق السفن لكي يجبر جنوده على البقاء والاستمرار . كذلك هنية وحماسته , جاءوا على زورق الانتخابات وديمقراطيتها, وحرقوه بعد تشكيل الحكومة وتسلم هنية رئاستها . لسنا بصدد الدخول في حيثيات العملية الانتخابية وما واكبها من تفاعلات سياسية بين جذب وصد, فما تلاها من اهتزازات واحتدام سياسي واعلامي على الصعيد الدولي والداخلي , يحتمان علينا الوقوف والنظر الى ما آل اليه الوضع الفلسطيني قيادةً وشعباً .فهذه الحكومة لم يكن عزلها سياسياً واقتصادياً محصوراً بالقوى الدولية واسرائيل فحسب , وانما كانت هناك فتح التي ظلت تواجه حركة حماس من منطلق عدم أهليتها بتولي الحكومة , ليس حرصاً على مصلحة الفلسطينين وسير أمورهم , بل حفاظاً على مقدراتهم السلطوية ; فهم طوال عقد مضى يصولون ويجولون في زواريب السياسة دون الوصول الى هيكل او كيان مفهوم واضح , أو حتى استقلال عن أموال المنح الغربية , دون ادنى محاولة لتكوين بنية اقتصادية يعتمد عليها الفلسطيني في معيشته اليومية , ولا اتغاضى هنا عن واقع الوضع الفلسطيني وعدم السماح له بانشاء او ترسيخ اي اقتصاد محلي , وفرض التبعية عليه , غير أن الطاقات الاكاديمية كانت تفرغ على مواقع الوظيفة التنفيذية , واهمال للطاقة العامله من حيث ظروف العمل والأجور , مما ادى الى تزايد اعداد العاملين في اسرائيل , لتحصيل مردود مادي أفضل . ومما زاد الوضع الاقتصادي سوءاً وتعقيداًً أحداث الانتفاضة التي بدات عام 2000 , وما واكبها من حصار مشدد على الفلسطينيين , حيث مُنع العامل من دخول اسرائيل أو المدن الفلسطينية خارج نطاق سكناهم , كذلك الموظف الذي اجبر إما على البقاء في منطقة سكنه حاله كحال العامل , أو المخاطرة بأرواحهم عبر سلوك الطرق الالتفافية للتنقل بين قرى ومدن فلسطين, وهذه الطرق كانت تُداهم من قبل الجنود وتوضع فيها الحواجز الطارئة, أما تلك الدائمة فالمرور عبرها له وقع خاص ; حيث لا أهمية للوقت وانت تقضي الساعات على الطريق _ أياً كانت الحالة الجوية _, بانتظار اشارة المجند للسماح لك بالاقتراب ومن ثم التفتيش والتدقيق بالهوية, عندها يمكن أن تعبر أو تعود من حيث جئت أو تصادر هويتك وتُوقف , ليس من سبب لكل هذا سوى أنك فلسطيني تنتقل من مكان الى أخر. كذلك فرضت القيود على نقل البضائع الى الضفة وغزة الى درجة الندرة في توفيرها للتاجر وبالتالي المستهلك , ناهيك عن بناء جدار للفصل العنصري يلتف حول مدن الضفة وعلى أراضيها المصادرة لهذا الغرض . حين يجتمع كل ما سبق في مكان وزمان واحد , حين تغتال مبادئ أمنت وعشت بها , حين تقف بين داخل هش وخارج متربص بك , حين تكون أنت الضحية وأداة القتل , فلا بد أن تقف وتقول كلمتك , يجب أن ترفع صوتك وتسمع القاصي والداني .عشرون يوماً والحكومة تصم أذانها عن مطالب المضربين , وتحاول جاهدةً اختراق صف المواجهة , مرة وزعت بيان وقع باسم أولياء الأمور يطالب المعلمين بالعودة عن الاضراب والأخذ بعين الاعتبار مصلحة الطلاب , ومرات تتهمهم بالعمالة لاسرائيل وتنفيذ مخططها , وتصرح بأنهم أداة السلطة لضرب الحكومة واسقاطها , في حين لم تكلف نفسها عبء مساعدة مستخدميها واحتوائهم , هم يملكون الأموال الكافية لدعمهم وان بالشيء اليسير , فتهريب الأموال عبر معبر رفح لم يتوقف , وفضح في سابقتين , كذلك التبرعات التي جمعت من الفلسطينيين لم توزع الا على محازبي حماس , وزادت الطين بلة حين الحقت 40000 مستخدم جديد وزعوا على كافة الوزارات , اعتداء بالضرب واطلاق النار على كثير من المدرسين ومدراء المدارس , وظفت خطباء المساجد للتشهير بقيادة الاضراب والمضربين , بثت بيانات ومقالات مشابهة في الصحف المحلية والعربية . هكذا أحرقت حماس زورقها , فالديموقراطية سقطت في صناديق الاقتراع , والاضرابات خيانة للمقاومة , حماس أولاً وأخراً وما بينهما , أما فلسطين فهي تاريخ في ذاكرة الشهداء .عشرون يوماً مروا على اضراب الموظفين بامتناعهم عن أداء وظائفهم , قيادة السلطة وفتح تدعمهم بكل ما بقي لها من قوة وتغذي مطالبهم . تتصاعد وتيرة الاضراب من اعتكاف الى تظاهر واعتصامات , وشعاراتهم لا تراوح الجوع والفقر , وهنا تحضرني أسئلة ; هل حكومة حماس هي من وشم المجتمع الفلسطيني بالفقر والجوع ؟ هل ستُبقي فتح على دعم الإضراب إذا سقطت الحكومة وشاركت في الحكومة الجديدة ؟هل استثارة قاعدة شعبية لا يستهان بها هو من الذكاء السياسي بمكان ؟على ماذا تعول حماس عندما تخسر تأييد قطاع الموظفين والأهالي ؟هل ترى حماس بقاءها في حكومة هشة فاشلة من مقومات ادعاءها المقاومة ؟ما موقف قيادة الاضراب اذا اتفقت فتح وحماس على تشكيل حكومة وطنية , وتخلت عنهم ؟ما هي أولويات الشعب الفلسطيني ومن ضمنهم المضربين, ومتى أصبحت القضية الفلسطينية راتباً شهرياً ؟يجب التنويه أنه من صلاحيات رئيس السلطة إسقاط الحكومة والتوجه الى صناديق الإقتراع من جديد , لكنه لا يريد المجازفة بالتصدي المباشر لمؤيدي حماس , لذلك رأت فتح في دعم الاضراب والمساهمة فيه بقوة مخرجاً لها من هذا المأزق , فوجهت شريحة تمس غالبية الفلسطينيين لمواجهة الحكومة , واستخدمت مطالبهم العادلة لتحقيق مأربها . كلمة برسم الجميع . الحكومة الشعب السلطة كافة التنظيمات, " أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا يا سعد تورد الإبل " . على الحكومة أن تتعاون وتتفهم مطالب الموظفين , ولتتوقف عن غبائها السياسي والعنجهي , فهي عاجزة عن تمثيل فلسطين وشعبها , ولا جدوى لرأس دون جسد , وقبل كل هذا عليها الكف عن التلطي خلف مزاعم وحجج كاذبة , ظناً منها أننا غافلون عن تاريخها وجاهلون بأبجدياتها . معلمينا الأعزاء , حقكم حقنا واضرابكم حرية قرار حافظوا عليه , عليكم توجيه بوصلتكم لجهة الذئب الذي يتربص بكم ولا تكونوا اداة تناحر واسفاف سياسي , نحن فلسطينيون لم نجهل يوماً عدونا , اتركوا منابر الجهل للجاهلين والمستغلين , اعيدوا جدولة وسلوكيات الاحتجاج , فبدل من التعطيل الكامل عن التدريس , توجهوا لمدارسكم وأدوا واجبكم , علموا طلابكم كيف يكون الصمود والمطالبة بالحق معاً , نظموا وإياهم أساليب حضارية للإعتراض , اذكركم هنا أنكم وقفتم أمام المجلس التشريعي معتصمين وأسألكم , اين كنتم حين كان كوفي أنان وطوني بلير في زيارة لرام الله ؟ لماذا لا تشاركون المتظاهرين أمام الجدار الفاصل في بلعين وغيرها من قرى ومدن الضفة ؟ فلسطينيون نحن شئتم أم ابيتم , صمودنا واجب ونضالنا حق , ونهجنا يجب أن يبقى الوعي ومقاومة العدو الأوحد اسرائيل .
No comments:
Post a Comment