بكى الشعب الفلسطيني. ترقرقت الدمعة على خدود شبان وشابات ربما لم يروا ابو عمار في حياتهم، كما نزلت من عيون مسؤولين عملوا معه لاعوام طويلة. شعور باليتم قيل انه خيم على المدن والمخيمات الفلسطينية. الضياع والكآبة والسوداوية مرادفات لليتم. لكن اليتم في الوقت ذاته شعور ملازم للانتماء. فما من لقيط يشعر باليتم. فهو دليل على الرابطة بين الاصل والفرع، بين الاب والابن. قد يكون هذا التفسير في وجه منه تكريس للطبيعة <<البطريركية>> التي حاول إرسائها مع شعبه بصفته اب وقائد لكل الفلسطينيين، لكن هؤلاء كانوا في خضم تكونهم كشعب وانتقالهم من مجرد كمية من البشر المنتشرين في المخيمات والمنافي الى كيان سياسي، في أمسّ الحاجة الى مرشد، الى <<بوصلة>> من نوع ما، مع ان هذا المرشد بدا في لحظات معينة انه في حاجة الى من يرشده. فالباحث عن الاعمال الكاملة لقائد الثورة الفلسطينية سيصاب بخيبة امل. لن يجد باحث مفترض كهذا أي ادبيات يمكن ان تشبه ما تركه لينين او ماو تسي تونغ او حتى تشي غيفارا او هو شي مينه، من استشراف للأسس التي تشكل مقدمات انتصار الثورة. ومع التشديد على الفوارق الكبيرة مع من سبقت الإشارة إليهم، لن يجد الباحث ما يمكن ان يقترب من المجلدات التي دبجها كيم ايل سونغ عن بناء الدولة بعد الثورة. لقد كانت القيادة الفلسطينية، وخصوصا حركتها الاكبر <<فتح>>، بعيدة عن الهم الفكري والنظري مستعينة لتحديد هويتها السياسية بمزيج من العقائد والافكار تمتد من طروحات الأخوان المسلمين بنسختهم الأولى، الى مقولات ماو عن سلطة الشعب. بل يمكن القول، انه باستثناء بعض الكتيبات التي وضعت في اطار السجال مع تنظيمات غالبا ما كانت تنتقد <<فتح>> من جهتي اليسار والقومية العربية (بطبعتها البعثية خصوصا)، لم تسعَ الحركة وقيادتها الى تكريس خط فكري واضح المعالم. بل لعل الامتناع عن الالتزام بأيدلوجية محددة اتاح ل<<فتح>> قدرا من المرونة ابعدها عما اصاب جهات فلسطينية اخرى من جمود. كانت <<فتح>> ترى، وعلى خلاف القوميين العرب الآخرين، ان تحرير فلسطين يشكل رافعة الوحدة العربية وليس العكس أي ان من غير الضروري تحقيق الوحدة قبل التحرير، وفقا لما كان يقترح دعاة الوحدة في الستينات والسبعينات. ولعل من مفارقات الثورة الفلسطينية انها لم تشهد ولادة مفكر واحد يستحق هذا اللقب وإن كانت شهدت ظهور كتاب في الفكر السياسي. هذه الرحابة التي تصل في نظر منتقديها، الى حدود التسيب بل الانحياز الى صفوف البرجوازية، ربما كانت ضرورية لتشكل الغطاء الاوسع لتكوين الشعب الفلسطيني بكل فئاته. واستبدلت القيادة الفلسطينية الأيديولوجيا بالرمزية. الشعار والآية القرآنية والكوفية والبزة الكاكية والمسدس. واذا تم جمع كل الشعارات التي رفعها عرفات من <<النفق المظلم>> و<<حرب الاكورديون>> في مرحلة بيروت قبل الاجتياح الاسرائيلي الى <<شهيداً... شهيداً... شهيداً>>، مرورا ب<<الشبل والزهرة اللذين سيرفعان العلم الفلسطيني على اسوار القدس>>، لما ملأت اكثر من كتاب صغير. سيكون من العبث السؤال عمن طبع الاخر بطابعه، اهو عرفات الذي جعل الثورة الفلسطينية وفصيلها الرئيس يشبهه ام انه المجتمع الفلسطيني هو الذي حدد سمات الشخصية العرفاتية. المهم ان رحيل عرفات يسجل غياب اللون الكاكي، غياب المناضل الثوري. اللاعب بين العسكري والسياسي، من دون ان ينكر أي منهما نكراناً نهائياً. ما هو لون القيادة المقبلة؟ نأمل ان يختار الفلسطينيون أفضل الألوان لهم.
No comments:
Post a Comment