Listen ( Altaghreba )
عند باب الدخول إليها تبدو مقبرة مسلمين عادية. صناديق مستطيلة بيضاء تتراصف وتمشي بينها ممرات ترابية ضيقة. أضرحة يغطيها الشجر الذي نكاد لا نراه في بيروت إلا في المقابر. هي مقبرة عادية إذا هذه التي ترتفع عند بابها لافتة تسميها: مقبرة شهداء الثورة الفلسطينية. إلى هذه المقبرة حمل شبان فلسطينيون نعش أبو عمار الرمزي يوم تشييع جسده الفعلي الجمعة الفائت في رام الله. دخلوا بالنعش إلى آخر المقبرة ومددوه فوق ضريح خاله الحاج محمد أمين الحسيني مفتي فلسطين الأكبر. هناك وقفوا وأنشدوا نشيدهم الوطني وأدوا قسم الولاء للثورة وانكب أحدهم على النعش وأجهش بالبكاء. هناك التقط شابان العلم الفلسطيني الذي لف به النعش من طرفيه وراحا يطويانه بحركات منتظمة تليق برايات الوطن. أبو عمار دفن في مقبرة الشهداء الفلسطينيين. هل رأى أحدكم يوما مقبرة كهذه؟ <<الشهيد البطل جورج إلياس ديراني، مواليد حيفا 1932، استشهد عام 1985، أتمنى ان لا أموت على ارض غير أرض فلسطين>>. تقول اللوحة الرخامية المستطيلة فوق الضريح. الشهيد مسجى جنوبا كما حال الشهيد المسلم الذي يتمدد إلى جنبه. هذا كتب في أعلى ضريحه كلمة: <<الفاتحة>> وذاك حفر صليب في أعلى ضريحه. جورج استشهد سنة 1985. كان هناك من الوقت ما يكفي لحفر معلومات كثيرة على شاهد قبره، منها العبارة الأخيرة. رفيقه لم يكن محظوظا كفاية. استشهد سنة 1982. أثناء الاجتياح الإسرائيلي. ضريح الشهيد فؤاد خالد <<مواليد 19>> استشهد 1982. هذا كل ما كتب، وبيد ليست محترفة، على الضريح. لم تحدد سنة ميلاده... الرقم 19 وفراغ بجانبه ربما ليملأ لاحقا، في غير زمن الاجتياح. الاجتياح يمشي على القبور التي حفرت على عجل وأقيمت الأضرحة شديدة التقشف فوقها على عجل. زمن اجتياح والفلسطينيون يموتون كل يوم. الآن المقبرة هادئة. كيف كانت سنة 1982 يوم كان الشهداء يزدحمون عند بابها ليدفنوا كما يليق بالشهيد أن يدفن؟ كيف كان حال الفلسطينيين وحالنا في ذاك الزمن؟ هذه المقبرة تحكي عن ذاك الزمان ببساطة المعلومات القليلة المكتوبة... باختصارها أحيانا إلى الإسم وتاريخ الاستشهاد <<أثناء الإجتياح الإسرائيلي>>. 1982 تحتل القسم الأوسع من المكان. الشهداء بمعظمهم من الشبان. في العشرين، في الثامنة عشرة، في السادسة عشرة. أصغر. طفل في التاسعة استشهد خلال قصف الطيران. الشهيد أسكندر حنا، مسيحي آخر، 1985. أضرحة لم تكتب اسماء أصحابها عليها، خمسة اضرحة لخمس صبايا استشهدن خلال غارة إسرائيلية على معسكر تدريب فلسطيني: 1988. خمسة اضرحة أقيم حولها سياج حديدي. يتوسط هؤلاء إسم علي حسن سلامة. <<ابو حسن سلامة>> الذي اغتالته في بيروت مجموعة إسرائيلية سنة 1979. ناجي محمد برسم (1950 1976). عراقي. استشهد سنة 1976 أثناء الواجب. عراقي ثان استشهد في عام آخر. إيراني. سوري استشهد دفاعا عن الثورة. شهيد رحل عن ثلاثين سنة عام 1976، ذهبت أمه إليه سنة 1999 ودفنت معه... وصار القبر قبرين. أكثر من ضريح يضم رفاة اثنين واحد استشهد وآخر مات لاحقا. ولد سنة 1948 واستشهد سنة 1975. إبنه: ولد سنة 1972 وتوفي سنة 2003. لا يعرفان بعضهما حق المعرفة. كل هذه الأرقام! الضريح يتألف من بضع كلمات وأرقام. الأضرحة ليست مغلقة تماما. في كل ضريح فجوة مربعة من أجل أن تزرع فيها الشتول. قبر عليه كلمة الفاتحة، وآخر عليه صليب، وثالث تعلوه زوبعة القوميين: بشير عبيد... ثم ضريح صغير مربع وضعت عليه صورتان صغيرتان بالأبيض والأسود، وكتب بالقرب من الوجهين اليابانيين: هنا الضريح الرمزي لبطلي عملية باتريك أرغويللو في مطار اللد داخل فلسطين المحتلة. تسويوشي أوكادايرا (باسم) ولد عام 1945 في اليابان استشهد في 30 ايار 1972. ياسويوكي ياسودا (صلاح)... ضريح رمزي. هل هناك غيره؟ نعم. ينتصب كقلعة بالقرب من ضريح خال ياسر عرفات... كبير لا يدل إلى أي دين... كتب عليه: شيد هذا النصب تخليدا لذكرى البطولات والصمود في تل الزعتر. الكلمتان الأخيرتان كتبتا بالأحمر بخط كبير. كان قد أزيح الستار عن النصب سنة 1977 في الذكرى الأولى لمعركة تل الزعتر <<برعاية القائد العام لقوات الثورة الفلسطينية>>... الإسم المحفور على الرخام لهذا القائد كان قد محي تماما ثم عاد من كتب الإسم فوق الأثر الممحو: ياسر عرفات. لن يكون هناك غيره. نتخيله هنا في كوفيته يزيح الستار عن النصب ويرفع شارة النصر... ثم نتخيله عاد إلى المكان ذاته مسجى في نعش فارغ... ذاك نصب آخر: اقيم هذا النصب التذكاري تكريما لشهداء مخيمات الشتات الذين دافعوا عن الثورة وجعلوا من أجسادهم جسر عبور إلى الوطن والاستقلال والدولة، شهداء مخيم صبرا وشاتيلا. هذا النصب الذي لم يجد طريقا بعد إلى المقبرة الجماعية في شاتيلا، موجود هنا منذ سنة 1985. في كل قبر ترقد حكاية. لكن الحكايات في المقابر الأخرى تختلف من قبر إلى آخر. هنا تقترب الحكايات من بعضها البعض. تتقاطع كثيرا. العديد من هؤلاء رحلوا عن عالمنا سويا... رحلوا في عملية واحدة أو في انفجار واحد. هنا لتاريخ الموت معنى آخر. الإسم ليس مهما هنا، سنة الموت تبدو أكثر بقاء... تختصر ذاكرة فلسطين الجماعية. هنا يرقد <<الأديب الكبير الشهيد غسان كنفاني... أستشهد بتاريخ 1972>>. هناك ضريح صغير ملون كثيرا. فيه طفل عمره ثلاث سنوات فقط. هذه صورته تحيطها ألوان الأولاد ورسومهم المتحركة. هذا اسمه: فادي. ولد سنة 2000 وتوفي سنة 2003. ضريحه نظيف ومزين وملآن بالورود. لربما هذا عيده الأول بعيدا عن اهله. ليس شهيدا. هو فلسطيني، لذا هو هنا في هذه المقبرة. هذه ليست مقبرة. هذا كتاب عن فلسطين صفحاته بعضها من رخام وبعضها من طين. كل الصفحات بيضاء تروي فصول الحكاية الطويلة.
No comments:
Post a Comment