محمد علي شمس الدين
على الرغم من الجهد التحليلي الذي يبذله فواز طرابلسي في كتابه <فيروز والرحابنة/ مسرح الغريب والكنز والأعجوبة> (عن رياض الريس للكتب والنشر 2006)، إلا أنه لم يلمس بعمق، جوهر العمل الإبداعي للأخوين رحباني (عاصي ومنصور) وبينهما واسطة العقد (فيروز)، سواء في المسرح أو في الأغنية. ومحاولتنا، هنا، هي استدراك على ما فات المؤلف في كتابه.. ذلك أن ما قام به طرابلسي، في منهجه التحليلي، لم يخرج عموما عن مجرد مطابقات بين أحداث حربية وتاريخية، قام بتقميشها من بعض مظانها في الكتب أو الصحف، وأعمال فنية إبداعية في المسرح والأغنية (الشعر، اللحن، الصوت)، فأسقط الأولى على الثانية (أي الأحداث على الفن) إسقاطا يكاد يكون آليا، متزودا بمنهج واقعي من المادية التاريخية، لا تعوزه المرجعيات النظرية، ولكنه، ولهذا السبب بالذات على الأرجح، فاته الالتقاء الذي نشده، على الرغم من أنه ضل السبيل، بضالته المنشودة في العقد الرحباني الفريد، وهو عقد الشعر والصوت. ولم نجد أن للشغف الذي ذكره والمؤلف الواصل لحد الفتنة (ص 20 و21) ذاك الدور الحاسم في الكشف عن مستور التوليد الإبداعي لدى الرحبانيين ولدى فيروز (سواء بسواء)، فقد غلبت المثاقفة على الشغف والفتنة، وكادت تعطلهما على امتداد مئة وإحدى وثمانين صفحة من الكتاب (البالغ مئتين وإحدى وثلاثين...) لولا بداية استدراك ما فات، والدخول في لحم وعصب التجربة، بإشارة الى <الطفولة> <كمفتاح لعالم الرحبانة كله>، واعتبارها، تبعا للنص الرحباني، أحلى وأغلى من المجد والكرامة والحكم والشهرة... (ص 181)... فأهم ما في الكتاب، في نظرنا، أواخره، في الصفحات المتعلقة بالحلم والطفولة، والغربة، والأعجوبة، والصوت... ولو اختصرناها لقلنا هي عناصر الشعر والصوت... مع التحفظ الواجب لهذه الناحية، وهو أن ثمة (في الشعر كما في صوت فيروز) غموضا عذبا لا يفسر، سواء من جهة المصدر والغاية أو العبارة بذاتها.. أي، في هذين المقامين بالذات: النشوة أكبر من التاريخ وأكبر من العقل نفسه. وهذا هو جوهر التجربة على ما نرى. إن الصفحات الطويلة، والأرشفة الموثقة لأحداث تاريخية حدثت في الماضي أو الحاضر، أثقلت كاهل الاحتكاك الجسدي والنفسي الحي بالنصوص الرحبانية. هذا فضلاً عن إسقاطات آلية مبسطة لأحداث بعينها وأشخاص بعينهم على <النص الرحباني> وعلى <الشخص الرحباني>... ما عطل الآلة المعرفية والذائقة الفنية معا... فعمليات التقميش القريبة (من صحافة وبعض الكتب أو الأطروحات) في مسرحيات مثل موسم العز 1960 وجسر القمر 1962 والليل والقنديل 1963 وبياع الخواتم 1964 ودواليب الهوا 1965 وهالة والملك 1967 والشخص 1968 ويعيش يعيش 1970 وناطورة المفاتيح ...1972 إلخ. وعمليات التقميش التاريخية القديمة لمسرحيات <بترا> ,1977 وسكتش زنوبيا الذي عرض للمرة الأولى العام 1971 في دمشق من ضمن مسرحية <ناس من ورق> ليحل محل سكتش <شهرزاد>، والتقميش التاريخي لمسرحيات تتناول العصور الوسيطة مثل موسم العز 1960 وأيام فخر الدين 1966 وجبال الصوان ...1966 إلخ. ... هذه التقميشات سبقت العمل التحليلي للأشعار والشخوص المسرحية، ومهدت لها، ما أدى الى ضغط حدثي مباشر على النص والشخص المسرحيين، خفف من إشعاعه، إن لم نقل أعتمه... والأمثلة على ذلك كثيرة، نكتفي بالبعض منها، بنصه الحرفي كما ورد في الكتاب. فهو يكتب بصدد مسرحية <جسر القمر> 1962 ما يلي: <... مجددا فلننتقل من مسرح الأغنية والحوار والرقص الى مسرح السياسة والاجتماع اللبنانيين. ماذا نجد؟ نجد أن ما تدعو إليه المسرحية هو الصياغة الأدبية الفولكلورية لما عبّر عنه في حينها بطريقة شبه حرفية، ولكن بلغة سياسية، الرئيس فؤاد شهاب في رسالته الشهيرة الى اللبنانيين بمناسبة عيد الاستقلال يوم 22 تشرين الثاني .1961 دعا شهاب الذين ينعمون بالازدهار الى الاهتمام باللبناني المتخلف وطالب بإلحاح من البعض التضحية ومن البعض الآخر الصبر. فها هي المسرحية تهيب بأهالي القرية (اقرأ الطوائف والمناطق المسيحية) أن يضحوا في سبيل الأقل يسراً، أي أهل القاطع (اقرأ: الطوائف والمناطق الإسلامية) وهي تهيب بهؤلاء الأخيرين أن يتحلوا بالصبر الى أن يتم ذلك... إلخ>. هكذا يمهد الكاتب للمسرحية وكأنها صدى لحيثيات سياسية مباشرة، فالسياسة تكبس بثقلها على الشعر والصوت والمسرح، فتناقش المسرحية وكأنها بيان سياسي، و<تعمل الإيديولوجيا> على الذاكرة (كما يقول في ص 62). يكتب أيضا بصدد مسرحية <الليل والقنديل> ,1963 هذه المقارنة بينها وبين <جسر القمر>: <... إذا كانت جسر القمر تثير مسألة الاقتتال الأهلي والسلم الأهلي، ف<الليل والقنديل> تثير مسألة الأمن الداخلي للنظام> (ص 66)... ثم يستطرد في عرض حدثي مفصل للمحاولة الانقلابية العسكرية ضد العهد الشهابي التي نفذتها مجموعة من العسكريين المناصرين للحزب السوري القومي الاجتماعي (ص 67/68). ويكتب في ص 75 الملاحظة التالية: في <جسر القمر> و<الليل والقنديل> كان موضوع المسرحية العلاقة بين الأمن من جهة وبين الازدهار والانفتاح الاقتصاديين من جهة أخرى. <بياع الخواتم> من جهتها تثير مسألة العلاقة بين الأمن وشرعية السلطة. ومن يقل شرعية الحكم يقل إيديولوجيا. من هذا المنظار تبدو <بياع الخواتم> مجموعة <تأملات في الإيديولوجيا> يعرض لنهاية الشهابية في الصفحات ,80 ,79 ,78 والى ما انفجر في وجه الرئيس شارل حلو من أزمات وإضرابات عمالية وتحرك المزارعين، واحتقان طائفي، من خلال تقرير سياسي حدثي مباشر، ما يلبث أن يسقطه على المسرح الرحباني، فيقول: <ومهما يكن، سوف يبقى فؤاد شهاب <الشخص> حسب تسمية الرحابنة له في مسرحية لاحقة> (ص 80)... وهكذا، وهلمجراً، وعلى هذا المنوال، تتوالى السياقات الحدثية السياسية والاجتماعية، الممهدة أو المرافقة للمسرحيات الرحبانية، لكي تشكل الأداة التحليلية (الإيديولوجية) للكاتب. فهو يسقط الاقتصاد السياسي والاجتماعي، والتاريخ الحدثي على الفن، ليحشره في داخله... ولا يعدم في كل مسرحية من المسرحيات، الحدثيات التاريخية والمبررات الإيديولوجية للتفسير.. وهو يستعين بعدة معرفية انطلاقاً من ماركس ولينين، وماكس فيبر، وصولا لنزار مروّة،،، و.... أنسي الحاج وكاداريه (كشاعر وروائي) مرورا بفرويد وباشلار. حسنا... حين تلمع المثاقفة العبقرية في ذهن الكاتب، يصل الى لمس معادلة جوهرية في التعرّف على <الحلم> في المسرح الرحباني وعلاقته بالطفولة من جهة (فرويد) وبالغد من جهة (باشلار من خلال قوله: <الحلم هو الغد> (في كتابه شعرية الحلم la poetique de la reverie paris - presse - universitaire de france 1968 P.96
ملاحظات
ويلمس ايضا مسألة الوعد في المسرح الرحباني، لا كمحض انتظار متروك للقدر، بل كاجتراح يحققه الموعودون به، على ما يرى الروائي التركي اسماعيل كاداريه حيث يقول: <عندما الشعب يكون في انتظار حدث ما، ثق انه في مخاض ابتداع ذلك الحدث>. كما انه يجيد، حين يتحدث عن شيء من اصول القناع (البربارة) والأعجوبة في المسرح الرحباني (ص 114 وما بعدها)... إن الملاحظات التي نرغب في ابدائها حول المسرح الرحباني بعامة، والشعر والصوت، هي التالية: أولا: المسرح الرحباني هو مسرح غنائي شعري Lyrique وشخوصه وأحداثه مستمدة إما من الواقع او الفكرة، والسياسة فيه، والاحداث التاريخية والاجتماعية، والتسميات، موضوعة في خدمة العمل المسرحي، كفن.... أي كمبادرة ابداعية توليدية، لا كصدى لواقع او تفسير له. ثانيا: العمل المسرحي للرحابنة، كتقنية مسرحية، من نص وفضاء واشخاص مسرحيين، عمل متواضع على العموم، فهم لم يستفيدوا من التقنيات الكبيرة للمسرح العالمي على أيدي أمثال يونيسكو ودورنمايت... بل كتبوا حوارات متواضعة في الشكل والتقنية، وإطارهم المسرحي إطار لا يعتدّ به. ثالثا: جوهر العمل المسرحي الرحباني، لا التاريخ ولا الواقع، لا السياسة ولا المجتمع (على الرغم من حضور ما لهذه العناصر)... بل الشعر. رابعا: إن الشعر بالذات، في ما هو اساس هذا المسرح، لا يستقيم بذاته... وبجميع خفاياه وأسراره.. من الطفولة الى الموت، ومن الحب الى الغربة، ومن الأسطورة الى القناع، ومن الواقع للمتخيل... لا يستقيم بذاته استقامة مفردة، ولكنه يأخذ قيمته الجوهرية التي لا تقل عنه بذاته، من اندراجه في حنجرة فيروز... الشعر إذن لا يكون إلا في الصوت. خامسا: إن الشعر والصوت، في المسرح الرحباني، هما الأساس والشعر والصوت، حين يهملان في التحليل، يربكان المحلل... فأين السياسة والاقتصاد والاجتماع، مثلا... بل أين التاريخ نفسه، في مثل المقاطع التالية
أنا عندي حنين ما بعرف لمين
وان سألوا وين كنتو وليش ما كبرتو أنتو بنقلن نسينا
لما بدي اشحذ بقعد بالشنته ولما بدي نام بنام بالوحش
السرقة والحلم أخوة
كل حكم بالأرض باطل
والأرجح انه في الصنيع المسرحي والشعري الرحباني: المكان وهم والزمان وهم والأشخاص وهم أشخاص <قصقص ورق ساويهن ناس>، تبدأ بيّاع الخواتم على الشكل التالي
رح نحكي قصة ضيعة/ لا القصة صحيحة ولا الضيعة موجودة
واللافت ان الشعر الذي هو وليد الضجر يصنع الفن
بسّ بليله وهوّي ضجران خرتش إنسان عورقه صارت القصة وعمرت الضيعة
لكن الأخطر من ذلك كله، هو المعادلة التالية
المسرح الرحباني ابن الشعر الشعر هو هو الصوت الصوت هو فيروز. بمعنى انه ولا شخصية من الشخصيات الرحبانية ترسخ مسرحيا في المخيلة او الحقيقة المسرحية... لا فخر الدين ولا نصري شمس الدين، ولا وديع الصافي ولا فيروز كممثلة... أعني على غرار ما يبقى مثلا مارلون براندو الممثل في القيامة الآن باخراج كوبولاوحتى فيروز كممثلة مسرحية، تستطيع وأنت تشهد المسرحية، وهي تتحرك او تغني على المسرح، تستطيع ان تقفل عينيك وتسمع فقط، تسمع ولا ترى/ ولا تخسر شيئا مسرحيا (الصوت هو الحي.. والقائم). وإلا فأية قيمة للبندورة، مثلا، حين ينادي عليها اي كان (ما خلا فيروز) في احدى مسرحيات الرحابنة... إن لم توضع في حنجرة فيروز؟ من أجل ذلك، ولأن سوى فيروز غنّى المسرح الرحباني والشعر الرحباني، فبقي في حدود المألوف، ما عداها هي.. هي التي صنعت المعجزة بصوتها، نستطيع القول ويا للمفارقة: المسرح الرحباني شعر، الشعر صوت، الصوت فيروز
على الرغم من الجهد التحليلي الذي يبذله فواز طرابلسي في كتابه <فيروز والرحابنة/ مسرح الغريب والكنز والأعجوبة> (عن رياض الريس للكتب والنشر 2006)، إلا أنه لم يلمس بعمق، جوهر العمل الإبداعي للأخوين رحباني (عاصي ومنصور) وبينهما واسطة العقد (فيروز)، سواء في المسرح أو في الأغنية. ومحاولتنا، هنا، هي استدراك على ما فات المؤلف في كتابه.. ذلك أن ما قام به طرابلسي، في منهجه التحليلي، لم يخرج عموما عن مجرد مطابقات بين أحداث حربية وتاريخية، قام بتقميشها من بعض مظانها في الكتب أو الصحف، وأعمال فنية إبداعية في المسرح والأغنية (الشعر، اللحن، الصوت)، فأسقط الأولى على الثانية (أي الأحداث على الفن) إسقاطا يكاد يكون آليا، متزودا بمنهج واقعي من المادية التاريخية، لا تعوزه المرجعيات النظرية، ولكنه، ولهذا السبب بالذات على الأرجح، فاته الالتقاء الذي نشده، على الرغم من أنه ضل السبيل، بضالته المنشودة في العقد الرحباني الفريد، وهو عقد الشعر والصوت. ولم نجد أن للشغف الذي ذكره والمؤلف الواصل لحد الفتنة (ص 20 و21) ذاك الدور الحاسم في الكشف عن مستور التوليد الإبداعي لدى الرحبانيين ولدى فيروز (سواء بسواء)، فقد غلبت المثاقفة على الشغف والفتنة، وكادت تعطلهما على امتداد مئة وإحدى وثمانين صفحة من الكتاب (البالغ مئتين وإحدى وثلاثين...) لولا بداية استدراك ما فات، والدخول في لحم وعصب التجربة، بإشارة الى <الطفولة> <كمفتاح لعالم الرحبانة كله>، واعتبارها، تبعا للنص الرحباني، أحلى وأغلى من المجد والكرامة والحكم والشهرة... (ص 181)... فأهم ما في الكتاب، في نظرنا، أواخره، في الصفحات المتعلقة بالحلم والطفولة، والغربة، والأعجوبة، والصوت... ولو اختصرناها لقلنا هي عناصر الشعر والصوت... مع التحفظ الواجب لهذه الناحية، وهو أن ثمة (في الشعر كما في صوت فيروز) غموضا عذبا لا يفسر، سواء من جهة المصدر والغاية أو العبارة بذاتها.. أي، في هذين المقامين بالذات: النشوة أكبر من التاريخ وأكبر من العقل نفسه. وهذا هو جوهر التجربة على ما نرى. إن الصفحات الطويلة، والأرشفة الموثقة لأحداث تاريخية حدثت في الماضي أو الحاضر، أثقلت كاهل الاحتكاك الجسدي والنفسي الحي بالنصوص الرحبانية. هذا فضلاً عن إسقاطات آلية مبسطة لأحداث بعينها وأشخاص بعينهم على <النص الرحباني> وعلى <الشخص الرحباني>... ما عطل الآلة المعرفية والذائقة الفنية معا... فعمليات التقميش القريبة (من صحافة وبعض الكتب أو الأطروحات) في مسرحيات مثل موسم العز 1960 وجسر القمر 1962 والليل والقنديل 1963 وبياع الخواتم 1964 ودواليب الهوا 1965 وهالة والملك 1967 والشخص 1968 ويعيش يعيش 1970 وناطورة المفاتيح ...1972 إلخ. وعمليات التقميش التاريخية القديمة لمسرحيات <بترا> ,1977 وسكتش زنوبيا الذي عرض للمرة الأولى العام 1971 في دمشق من ضمن مسرحية <ناس من ورق> ليحل محل سكتش <شهرزاد>، والتقميش التاريخي لمسرحيات تتناول العصور الوسيطة مثل موسم العز 1960 وأيام فخر الدين 1966 وجبال الصوان ...1966 إلخ. ... هذه التقميشات سبقت العمل التحليلي للأشعار والشخوص المسرحية، ومهدت لها، ما أدى الى ضغط حدثي مباشر على النص والشخص المسرحيين، خفف من إشعاعه، إن لم نقل أعتمه... والأمثلة على ذلك كثيرة، نكتفي بالبعض منها، بنصه الحرفي كما ورد في الكتاب. فهو يكتب بصدد مسرحية <جسر القمر> 1962 ما يلي: <... مجددا فلننتقل من مسرح الأغنية والحوار والرقص الى مسرح السياسة والاجتماع اللبنانيين. ماذا نجد؟ نجد أن ما تدعو إليه المسرحية هو الصياغة الأدبية الفولكلورية لما عبّر عنه في حينها بطريقة شبه حرفية، ولكن بلغة سياسية، الرئيس فؤاد شهاب في رسالته الشهيرة الى اللبنانيين بمناسبة عيد الاستقلال يوم 22 تشرين الثاني .1961 دعا شهاب الذين ينعمون بالازدهار الى الاهتمام باللبناني المتخلف وطالب بإلحاح من البعض التضحية ومن البعض الآخر الصبر. فها هي المسرحية تهيب بأهالي القرية (اقرأ الطوائف والمناطق المسيحية) أن يضحوا في سبيل الأقل يسراً، أي أهل القاطع (اقرأ: الطوائف والمناطق الإسلامية) وهي تهيب بهؤلاء الأخيرين أن يتحلوا بالصبر الى أن يتم ذلك... إلخ>. هكذا يمهد الكاتب للمسرحية وكأنها صدى لحيثيات سياسية مباشرة، فالسياسة تكبس بثقلها على الشعر والصوت والمسرح، فتناقش المسرحية وكأنها بيان سياسي، و<تعمل الإيديولوجيا> على الذاكرة (كما يقول في ص 62). يكتب أيضا بصدد مسرحية <الليل والقنديل> ,1963 هذه المقارنة بينها وبين <جسر القمر>: <... إذا كانت جسر القمر تثير مسألة الاقتتال الأهلي والسلم الأهلي، ف<الليل والقنديل> تثير مسألة الأمن الداخلي للنظام> (ص 66)... ثم يستطرد في عرض حدثي مفصل للمحاولة الانقلابية العسكرية ضد العهد الشهابي التي نفذتها مجموعة من العسكريين المناصرين للحزب السوري القومي الاجتماعي (ص 67/68). ويكتب في ص 75 الملاحظة التالية: في <جسر القمر> و<الليل والقنديل> كان موضوع المسرحية العلاقة بين الأمن من جهة وبين الازدهار والانفتاح الاقتصاديين من جهة أخرى. <بياع الخواتم> من جهتها تثير مسألة العلاقة بين الأمن وشرعية السلطة. ومن يقل شرعية الحكم يقل إيديولوجيا. من هذا المنظار تبدو <بياع الخواتم> مجموعة <تأملات في الإيديولوجيا> يعرض لنهاية الشهابية في الصفحات ,80 ,79 ,78 والى ما انفجر في وجه الرئيس شارل حلو من أزمات وإضرابات عمالية وتحرك المزارعين، واحتقان طائفي، من خلال تقرير سياسي حدثي مباشر، ما يلبث أن يسقطه على المسرح الرحباني، فيقول: <ومهما يكن، سوف يبقى فؤاد شهاب <الشخص> حسب تسمية الرحابنة له في مسرحية لاحقة> (ص 80)... وهكذا، وهلمجراً، وعلى هذا المنوال، تتوالى السياقات الحدثية السياسية والاجتماعية، الممهدة أو المرافقة للمسرحيات الرحبانية، لكي تشكل الأداة التحليلية (الإيديولوجية) للكاتب. فهو يسقط الاقتصاد السياسي والاجتماعي، والتاريخ الحدثي على الفن، ليحشره في داخله... ولا يعدم في كل مسرحية من المسرحيات، الحدثيات التاريخية والمبررات الإيديولوجية للتفسير.. وهو يستعين بعدة معرفية انطلاقاً من ماركس ولينين، وماكس فيبر، وصولا لنزار مروّة،،، و.... أنسي الحاج وكاداريه (كشاعر وروائي) مرورا بفرويد وباشلار. حسنا... حين تلمع المثاقفة العبقرية في ذهن الكاتب، يصل الى لمس معادلة جوهرية في التعرّف على <الحلم> في المسرح الرحباني وعلاقته بالطفولة من جهة (فرويد) وبالغد من جهة (باشلار من خلال قوله: <الحلم هو الغد> (في كتابه شعرية الحلم la poetique de la reverie paris - presse - universitaire de france 1968 P.96
ملاحظات
ويلمس ايضا مسألة الوعد في المسرح الرحباني، لا كمحض انتظار متروك للقدر، بل كاجتراح يحققه الموعودون به، على ما يرى الروائي التركي اسماعيل كاداريه حيث يقول: <عندما الشعب يكون في انتظار حدث ما، ثق انه في مخاض ابتداع ذلك الحدث>. كما انه يجيد، حين يتحدث عن شيء من اصول القناع (البربارة) والأعجوبة في المسرح الرحباني (ص 114 وما بعدها)... إن الملاحظات التي نرغب في ابدائها حول المسرح الرحباني بعامة، والشعر والصوت، هي التالية: أولا: المسرح الرحباني هو مسرح غنائي شعري Lyrique وشخوصه وأحداثه مستمدة إما من الواقع او الفكرة، والسياسة فيه، والاحداث التاريخية والاجتماعية، والتسميات، موضوعة في خدمة العمل المسرحي، كفن.... أي كمبادرة ابداعية توليدية، لا كصدى لواقع او تفسير له. ثانيا: العمل المسرحي للرحابنة، كتقنية مسرحية، من نص وفضاء واشخاص مسرحيين، عمل متواضع على العموم، فهم لم يستفيدوا من التقنيات الكبيرة للمسرح العالمي على أيدي أمثال يونيسكو ودورنمايت... بل كتبوا حوارات متواضعة في الشكل والتقنية، وإطارهم المسرحي إطار لا يعتدّ به. ثالثا: جوهر العمل المسرحي الرحباني، لا التاريخ ولا الواقع، لا السياسة ولا المجتمع (على الرغم من حضور ما لهذه العناصر)... بل الشعر. رابعا: إن الشعر بالذات، في ما هو اساس هذا المسرح، لا يستقيم بذاته... وبجميع خفاياه وأسراره.. من الطفولة الى الموت، ومن الحب الى الغربة، ومن الأسطورة الى القناع، ومن الواقع للمتخيل... لا يستقيم بذاته استقامة مفردة، ولكنه يأخذ قيمته الجوهرية التي لا تقل عنه بذاته، من اندراجه في حنجرة فيروز... الشعر إذن لا يكون إلا في الصوت. خامسا: إن الشعر والصوت، في المسرح الرحباني، هما الأساس والشعر والصوت، حين يهملان في التحليل، يربكان المحلل... فأين السياسة والاقتصاد والاجتماع، مثلا... بل أين التاريخ نفسه، في مثل المقاطع التالية
أنا عندي حنين ما بعرف لمين
وان سألوا وين كنتو وليش ما كبرتو أنتو بنقلن نسينا
لما بدي اشحذ بقعد بالشنته ولما بدي نام بنام بالوحش
السرقة والحلم أخوة
كل حكم بالأرض باطل
والأرجح انه في الصنيع المسرحي والشعري الرحباني: المكان وهم والزمان وهم والأشخاص وهم أشخاص <قصقص ورق ساويهن ناس>، تبدأ بيّاع الخواتم على الشكل التالي
رح نحكي قصة ضيعة/ لا القصة صحيحة ولا الضيعة موجودة
واللافت ان الشعر الذي هو وليد الضجر يصنع الفن
بسّ بليله وهوّي ضجران خرتش إنسان عورقه صارت القصة وعمرت الضيعة
لكن الأخطر من ذلك كله، هو المعادلة التالية
المسرح الرحباني ابن الشعر الشعر هو هو الصوت الصوت هو فيروز. بمعنى انه ولا شخصية من الشخصيات الرحبانية ترسخ مسرحيا في المخيلة او الحقيقة المسرحية... لا فخر الدين ولا نصري شمس الدين، ولا وديع الصافي ولا فيروز كممثلة... أعني على غرار ما يبقى مثلا مارلون براندو الممثل في القيامة الآن باخراج كوبولاوحتى فيروز كممثلة مسرحية، تستطيع وأنت تشهد المسرحية، وهي تتحرك او تغني على المسرح، تستطيع ان تقفل عينيك وتسمع فقط، تسمع ولا ترى/ ولا تخسر شيئا مسرحيا (الصوت هو الحي.. والقائم). وإلا فأية قيمة للبندورة، مثلا، حين ينادي عليها اي كان (ما خلا فيروز) في احدى مسرحيات الرحابنة... إن لم توضع في حنجرة فيروز؟ من أجل ذلك، ولأن سوى فيروز غنّى المسرح الرحباني والشعر الرحباني، فبقي في حدود المألوف، ما عداها هي.. هي التي صنعت المعجزة بصوتها، نستطيع القول ويا للمفارقة: المسرح الرحباني شعر، الشعر صوت، الصوت فيروز
No comments:
Post a Comment