سمير الزين ___ كاتب فلسطيني
استطاع الخطر الداهم الذي تعرض له الفلسطينيون طوال تاريخهم الحديث توحيدهم وتهميش خلافاتهم وصراعاتهم الداخلية. وشكلت المخاطر التي تعرضوا لها جراء عدوانية المشروع الصهيوني الذي اقتلعهم من أرضهم، وكسر بنيتهم الاجتماعية، وألغى وجودهم الوطني عن خريطة المنطقة، وأدخلهم تجربة الشتات، النار التي صُنع منها فخار التجربة الوطنية الفلسطينية الحديثة. كما ظهر الفلسطينيون في لحظات من تاريخهم كأنهم عصيون على الاختراق، محصنين ضد الصدامات والصراعات الداخلية الواسعة. وقد ساهمت أسطرة التجربة الفلسطينية عربياً وفلسطينياً في تعزيز هذه النظرة، التي كادت تقنع الفلسطينيين والعرب، بأن الشعب الفلسطيني هو شعب مختلف عن الشعوب العربية جوهرياً. وفي الكثير من الأحيان حمل تعبير _الخصوصية الفلسطينية_عند استخدامها من الفلسطينيين ما يمكن تسميته <عنصرية مقلوبة>، رداً على عنصرية مزدوجة مورست ضدهم، من جانب المشروع الصهيوني من جهة، ومن جانب الدول المضيفة من جهة أخرى، وكانت _العنصرية الفلسطينية_، إذا صح التعبير تنطلق من تفوق الفلسطينيين على العرب في كل شيء تقريباً رغم الظروف الاستثنائية التي يعيشونها.كانت العلاقات الداخلية الفلسطينية الفلسطينية الكاملة ممتنعة طوال التجربة الفلسطينية ما قبل تجربة أوسلو، فقد كانت هذه العلاقات تمر عبر سيطرة طرف آخر، سواء كان الاحتلال أو الدول المضيفة. وكانت هذه الصيغة التي عاشها الفلسطينيون بحكم تجربة الشتات تُخفي إلى حد كبير الصراعات الداخلية من جانب، ولا تمنح التجمعات الفلسطينية أدوات هذا الصراع، طالما أنهم محكومون بجغرافيا سياسية لا تعود إليهم، سواء سيطرت عليهم أم سيطروا عليها. وفي الحالتين لم تكن أدوات الصراع متوفرة، لا بمعنى المصالح التي يمكن تحقيقها، ولا بوجود جغرافيا يمكن حسم هذا الصراع من خلال احتلال مواقعها من طرف وطرد الطرف الآخر. بل على العكس، في الحالات التي جرى الصراع فيها على الجغرافيا، مثلما حصل في انقسام حركة فتح في العام ,1983 كان كسب الجغرافيا في البقاع اللبناني، وطرابلس اللبنانية، هو خسارة في الإطار الوطني، وليس تعزيزاً لمكانة القوى التي أنجزت الانتصارات الجغرافية، لأن منظمة التحرير كوطن معنوي للفلسطينيين ما كان يمكن حسم الصراع عليها على جغرافيا الآخرين. وإذا كان من الصحيح أن الصدامات الفلسطينية الفلسطينية قد وصلت في الكثير من الحالات إلى الصدام المسلح والدامي، إلا أنها لم تكن قادرة على الوصول إلى الحرب الأهلية لسبب موضوعي وبسيط، هو أنها كانت صراعات على أرض الآخرين، وليست على الأرض الفلسطينية، وكان فيها من العوامل الخارجية الإقليمية أضعاف ما فيها من عوامل داخلية فلسطينية.رحلة المنفى الفلسطيني وصلت إلى الوطن عبر صيغة مُختلف عليها فلسطينياً، فقد أدخلت اتفاقات أوسلو الوضع الفلسطيني في عنق الزجاجة، وحبسته في وضع انتقالي غير قادر داخلياً على الخروج منه. وقد استعصى الحل الذي أسست له الاتفاقات الانتقالية، دون أن ينتج حلاً سياسياً مقبولاً، حتى لأولئك الذين وقعوه. وفي إطار الواقع الجديد الذي أنتجته هذه الاتفاقات تشكلت السلطة الفلسطينية، التي جعلت جغرافيا فلسطينية عليها سكان فلسطينيون يخضعون لسلطة فلسطينية، وهو أول تلاق من هذا النوع في التجربة الفلسطينية الحديثة. وعند هذا اللقاء بدأ يتضح أن كل مقولات <التفوق الفلسطيني> على التجارب العربية، ما هي سوى ادعاءات وأوهام ذاتية تعززت لعدم دخول الفلسطينيين تجربة السلطة الفعلية، وعند دخولهم هذه التجربة، بدأت كل أمراض العالم العربي تظهر هناك، رغم أن ما تم إقامته هو سلطة محدودة في إطار اتفاقات انتقالية، ولم يمنع ذلك الاعتقال السياسي، والفساد المعمم، وبناء الاحتكارات، والسرقات، والسمسرة حتى مع الاحتلال، وبناء مصالح شخصية وعائلية، ومنح إقطاعيات للمقربين... الخ، وظهر واضحاً أن هناك مشروعات سلطوية فلسطينية تبدأ من أردأ التجارب العربية.واليوم كل عوامل الحرب الأهلية موجودة في الأراضي الفلسطينية، هذا لا يعني أنها حتمية، ولكن الوضع الفلسطيني اليوم أقرب إلى الحرب الأهلية، أو أقرب إلى الفوضى الدموية، من أي خيار آخر. والاكتفاء بالتصريحات، واعتبار الوضع الفلسطيني محصنا ضد الحرب الأهلية الداخلية، قد شكلا أحد العوامل التي تدفع باتجاه انفجار هذه الحرب. ولأن الوضع الفلسطيني غير محصن، فعلى الجميع العمل اليومي على تجنب مصير يكاد يكون محتوماً في ظل كل الانسدادات التي يعاني منها الوضع الفلسطيني، وفي ظل كل الضغط الذي يتعرض له، والذي يجب العمل على عدم انفجاره داخلياً، في كل القضايا وفي كل حارة وزقاق في الوطن الفلسطيني، يجب العمل على عدم الوصول إلى هذه الحرب، والمطلوب اليوم حرب فلسطينية على الحرب الأهلية. ولكن ليس هذا ما يجري في الأراضي الفلسطينية، فكل المعطيات تقول عكس ذلك، لذلك يضع المرء يده على قلبه، لأن في حال الدخول في مثل هكذا صراعات، لا أحد يعرف كيفية الخروج منها، ولا يعرف إلى متى تدوم، وكم من الأرواح العزيزة ستحصد، عدا عن أنها مدمرة للوضع الفلسطيني وللمستقبل والوطن الفلسطيني.هل يدرك أصحاب القرار الفلسطيني في الطرفين أي مراجل تغلي لإشعال الوضع الداخلي الفلسطيني، وهل يعملون جدياً على تجنب مثل هكذا مصير بات على عتبة الباب؟!إنه سؤال برسم الجميع.
No comments:
Post a Comment