لعنة الفلسطيني

عبد الله عواد

هناك حاجة للاعتذار عن الكتابة السياسية.. فلكل انسان لحظة شيطانية و(شطحة) للتنفيس عن الاحتقان الذي يتراكم في داخله، بفعل مشهد محلي ثنائي، اقليمي ودولي، يُريد ان يُدخل الفلسطيني من ثقب الابرة ليحاكمه ويعاقبه ويقتله "كمجرم" وكأن هذا زمن الاجهاز على "الضحية" وكأن هناك عالماً جديداً "يريد أن يثأر من الفلسطيني الضحية" بصلبه على صليب الموت

هُم "فتية" كانوا يقاومون القتل.. والموت، كانوا يدافعون عن آخر ما تبقى من دفاع.. حينما وجدوا "ملاذهم الاخير" في كنيسة المهد.. التي وفرت لهم الحماية من موت محقق.. لموت آخر وآخر في المنافي، الوطن الذي تحول الى منفى والمنفى الاوروبي، واصبحوا شيئاً مجرداً من الماضي، ولا احد يسأل وكأن الصفحة تم طيها لمجهول آخر.. هم مرفوضون في الوطن بقوة الاحتلال ومرفوضون في الخارج "الاوروبي" لانهم "مقاومون" في زمن اللا مقاومة..وهم "مطالبون" بدخول محكمة "جرائم الحرب" كما ظهرت اصوات جديدة لان نفي الوطن.. غير كافٍ، وكأن ضحية الاحتلال لا تكفي، ولا تكفي ضحية النفي.. يريدون ضحية (جرائم الحرب).. ليكتمل مشهد الاجهاز على الضحية.. ويأخذ الجلاد نفساً عميقاً

وكتب عليهم "العذاب" من المهد الى اللحد.. لم يكتف عالم "الديمقراطية" وحقوق الانسان.. بكونهم ضحية "الاحتلال" وضحية "النفي" في "المنفى العراقي" الذي شكل لهم شيئاً من الملاذ الآمن "المؤقت" اراد استكمال المشهد قتلاً وتعذيباً.. لالقائهم نحو مجهولٍ آخر، فهم من "الجماعة" غير المعترف بها.. لهذا فإن المجهول أمامهم هو نفسه المجهول ولا شيء آخر.. وهي "لعنة الفلسطيني" تُطارهم في المنفى العراقي.. لتلقي بهم اطفالاً يلسعهم برد الصحراء.. ويفتح الجوع (فاهه) لالتهامهم "وهم يبتسمون" لا يعرفون ماذا يجري حولهم؟!أطفال ٌ يضحكون لقاتلهم.. وطاردهم وملاحقهم، دون ان يعرفوا انهم "مجرمون" لانهم ولدوا لابوين فلسطينيين. القي بهم في منطقة (اللاسيادة) او هكذا وجدوا انفسهم العودة موت، والبقاء موت، والمجهول موت.. هم يمشون بين موت وموت وموت.. ولا يعرفون اين هم ذاهبون، الكل يلاحقهم يطاردهم في وطن.. ومن منفى الى منفى.. والى منفى.. فالى اين هم ماضون لا أحد أحد يعرف

هو البؤس الاقتصادي الذي يلاحقهم منذ وطأت أقدامهم العارية ارض "النفي اللبناني" ولاحقهم القتل والتشريد والتعذيب.. وهم الآن الضحية الجديدة.. التي عليها دفع الثمن.. وكأن حالهم هو هو.. اذا اختلف زعماء القبائل اللبنانية، على الفلسطيني دفع الثمن واذا اتفقوا.. ايضاً عليه دفع "الثمن" لا الوطن الخاضع للاحتلال يريدهم ولا (وطن المنفى) يريدهم.. ولا أحد خارج المنفى يريدهم فإلى أين هم ماضون..؟!هي "اللعنة" وحدها تطارد الفلسطيني، لانه (فلسطيني).. تطارده في الوطن.. وفي المنافي.. كل المنافي تضيق عليه.. من العراق الى لبنان الى اوروبا.. والى ما شاء من مناف.. فأين هم ماضون؟

وهو السؤال الذي يهرب العالم المتحضر منه، والذي لا يُريد أن يسمعه أصلاً ماذا تتوقع من هذا الفلسطيني، الذي يعيش كبوة.. بالتأكيد سينهض منها.. وعندها (لوموا) انفسكم اذا ما حرق العالم.. عالمكم.. وقولوا عنه ما شئتم، وادخلوه من ثقب الابرة كارهابي محترف.. ماذا تتوقعون من هذا "الجيل الصغير" الذي يُسحق في الوطن وفي المنافي.. اذا توقعتم انه (قدري) فأنتم مخطئون لان من حق كل انسان ان يقاوم موته وعذابه.. وتهجيره.. ونفيه.. من حقه ان يبحث عن حياة تليق بكونه انساناً فقط.. فلا تغضبوا عليه.. فقط اغضبوا على انفسكم.. فأنتم "القاتلون" و"المجرمون" انتم الذين تلقون بهذا الفلسطيني من تيه الى تيه.. وهكذا

كان الفلسطيني "مقدساً" وكان الكل يقف له "احتراماً وتقديراً"، كل قيادات وشعوب العالم.. الذي تكرمه.. وتحبه..كان هذا الفلسطيني يشكل حالة "خاصة" في العالم كله شرقه وغرب، حتى وهو منكسرٌ كان "فلسطيني" كل أنظمة العرب وشعوبها.. كان يمثل "قداسة" عندها ولا أحد أحد يستطيع ان "يقرب منه" الاّ من باب (التمسح) بهذا الفلسطيني الذي نهض من ركام "الهجرة والنفي والاحتلال واقفاً" مارداً حاضراً عند الاعداء الذين يرهبونه.. بقدر ما هو حاضرٌ عند الاصدقاء، كان يقاتل ويقاوم.. ويستشهد.. وينهض من موته واقفاً.. متمرداً على كل قواعد "اللعبة" لانه كان يمثل وحده لعبة كاملة في العالم..ثم "صار الفلسطيني مطارداً" وملاحقاً صار من المغضوب عليه في وطنه وفي منافيه.. هل هي التبدلات الاقليمية والدولية؟! كما يُقال.. الاجابة.. لا وباختصار

هي نفس (اللعنة) في الوطن.. تُصادر أرضه.. وشيئاً فشيئاً يختنق في جغرافيته السكانية. يُعتقل ويُقتل ويُعذب ويُحاصر.. ويُهان ويُذل.. ويُقال بعد ذلك انه "إرهابي" ولا أحد يسأل.. وكان "قتل الفلسطيني بكُل أنواع القتل.. شرط الآخر ليكون ويسود ويتطور ويتقدم.. ودون ذلك، لا يكون هذا الاخر.. الذي يمتد على مدى المعمورة من أقصاها إلى ما بعد أقصاها.ولم (يكتف) بهذا القتل.. فها هو مشهد القتل الآخر بدأ يظهر.. مشهد (التجويع) وكأن على الفلسطيني الذي يلاحق من منفى الى منفى.. يلاحق من بؤس الى بؤس ومن جوع الى جوع.. ولا يوجد احدٌ في العالم بريئاً.. فماذا تتوقعون من هذا الفلسطيني؟!لن يشد "الاحزمة" على بطون خاوية أصلاً.. ولن يبتسم لقاتليه ولن يتودد لمضطهديه.. ولن .. والف لن.. ينام على قتله ونفيه وتجويعه.. وتعذيبه.. هو سيُقاوم.. والمقاومة لا يحكمها قانون الاقوياء كما يعتقدون وانما قانون الضعفاء.. وهو قانون لا يعرفه سوى انفسهم وهذا السرّ لا يفهمه "الأقوياء" الذين يمعنون في قتل وتعذيب.. واهانة ونفي هذا الفلسطيني الذي يفتقد في هذه اللحظة الزمنية للقيادة

لم "يستوحش" هذا العالم.. على الفلسطيني في هذه اللحظة.. لانه ضعيف وانما.. لأنه يفتقد "للقيادة" بعد ان استنفدت نفسها كل القيادات وبلا استثناءات وشاخت في غير (أوانها).. وتلقائياً غرقت في خلافات على (عظمة) سلطة.. كان المفترض الا تكون منذ زمن مضى.. لانها تحولت الى ملهاة بكل ما يعني المصطلح.. وحولت القضية بتاريخها وجغرافيتها وشعبها الى قضية (لقمة خبز) وهاربة أيضاً..ان قيادات "أعمتها الفصائلية عن رؤية الحقائق" وأعماها الصراع على حُكم "كاريكاتوري" عن رؤية الشعب.. والهتها المغانم التافهة عن رؤية الأهداف وأفقدها جشع السلطة عن رؤية البوصلة.. هذه قيادات محكومة عليها بالاستراحة.. ولا شيء غير ذلك

أُبشركم من بين هذه (اللعنة) التي تُطارد الفلسطيني ومن بين هذا الحال الذي وصلنا اليه.. سيظهر (فتية) يملكون من العقل رجاحة الحكماء.. ومن المنطق.. قوة العلماء.. ومن القوة ما هو أشد بأساً من كل الموجود.. ويعيدون للفلسطيني قداسته في الوطن والمنافي.. وعندها لا ينفع الضالين.. وراء سلطة.. سوى ضلالهم.. الذي سيأخذه معهم

-----------------------------------------

نقلا عن صحيفة الأيام الفلسطينية 6-4-2006