Wednesday, July 11, 2007

فيروز في أثينا


أثينا : اسكندر حبش

نظرت إليّ الشابة الكويتية، الجالسة أمامي، بكثير من الاستغراب حين قلت لها مازحاً بأني لا أحبّ فيروز. نظرة لا تنم عن شيء، إلا عن هذه الرغبة في أن تكسر شيئاً على رأسي على سبيل المثال، أو في أن تقول لي إنني جاهل لا أفهم شيئاً. وحين سألتها هل هي تقيم هنا، في أثينا، أجابت: لا، بل هي أتت خصيصاً من الكويت لتحضر هذه الحفلة. ربما فهمت استغرابها الكبير في تلك اللحظة. فهمت هذه المشقة الكبيرة التي تحملتها مع أخواتها للمجيء من أجل ألا تفوت عليها رؤية فيروز وسماعها. أدركتْ مدى ترددي، فأضافت سائلة عن سبب مجيئي إن لم أكن أحب هذه الفنانة الكبيرة، إذ لا يعقل ألا يحب المرء فيروز. قررت أن أستمر في اللعبة لأضيف أن ظروف تواجدي هذه الأيام في أثينا دفعتني إلى الحضور مع بعض الأصدقاء اليونانيين الذين يحبونها ويعشقون صوتها. لم يكن في ابتسامتها سوى تأكيد آخر على جهلي، إذ من غير المعقول أن يحبها اليونانيون بينما أنا لا أبالي بالأمر. استدارت لتستعد للمشاهدة تاركة إياي مع هذه الأفكار التي لم تفهمها.
لم يكن بعض أهل الكويت وحدهم الذين جاؤوا لحضور هذا الحفل (مساء السبت أول من أمس)، بل ثمة الكثير من أهالي الجنسيات الأخرى ـ الواضحة المعالم ـ جاؤوا ليحضروا. الكثير من العرب، من الأوروبيين ذوي اللغات المختلفة. الكثير من اليونانيين بطبيعة الحال، واللبنانيين المقيمين في أثينا، كما العديد من اللبنانيين المقيمين في أوروبا الذي قرروا المجيء. بالتأكيد لم يكن هناك أي حنين أبله دفع بهم لتذكر الوطن السعيد الذي غادروه منذ سنين. فقط جاؤوا لرؤية هذه القامة الوارفة التي تظلل الجميع. ففيروز هي بالتأكيد هذا اللبنان الآخر الذي لم يتوقف أحد عن التفكير فيه، عن حبه، عن نسجه في مخيلته إزاء كل ما يحصل. بمعنى آخر، بقيت فيروز هذا الوطن الطاهر الذي ارتفع فوق الجميع ليشيد قصة خرافية، حكاية أسطورية، لا يمكن لأحد أن يتخطاها. بالأحرى، أصبحت جزءاً من حياة لا تستقيم من دون أن تكون للمشهد الفيروزي حصته الكبيرة في هذا الفضاء الذي نتحرك ضمن نطاقه. هو أيضاً هذا الهواء النقي الذي يخبرنا كم أن الأشياء الجميلة لا تزال ممكنة، إن أردنا ذلك بالطبع.
«الديفا الأخيرة»
هل هذا ما أراده هذا الحشد المجتمع، في هذه الليلة الفيروزية، التي لا تشبه في واقع الأمر إلا الليالي الفيروزية الأخرى؟ كل شيء، ومنذ البداية، كان يخبرنا بذلك. حتى قبل الحفل بأيام طويلة، إذ كان من الصعب ألا يمرّ يوم، من دون أن تقرأ في صحيفة يونانية، مقالة عن فيروز وعن مكانتها الكبيرة في المشهد الفني والثقافي العالمي. عديدة هي الصفات التي أطلقت. وعديدة أيضاً كانت التحليلات التي قدمت مقاربات متنوعة لفنها ولصوتها، بدءاً من أنها تجمع الشرق والغرب في كلمة واحدة (مثلما قال عنها كبير الفنانين اليونانيين هازيتاكيس، والذي يعد اليوم خليفة ثيودوراكيس، في مقابلة معه) وصولاً إلى أنها آخر «ديفا» حية، مروراً بكونها هذا الرمز الذي لا يمكن تغييبه.
ربما لأنها آخر «ديفا» حية، دعاها مهرجان أثينا ـ الذي أصبح في العاشرة من عمره ـ لأن تكون إحدى ركائزه هذا العام. ليس ذلك فقط، بل يضاف أن فيروز هي أول فنان عربي يعتلي مسرح «هيرود أتيكوس» التاريخي، الذي يشكل معلماً ثقافياً من معالم اليونان. مسرح روماني في الهواء الطلق، (على طريقة المسارح الرومانية المعروفة)، يقع عند أسفل معبد الأكروبول اليوناني. حتى المكان كان يجمع حضارتين في طيّاته، لتُضاف إليه حضارة ثالثة، أخرى، ذات سمة عربية. لم تسمع أعمدة المسرح كلمات عربية من قبل. إنها المرة الأولى. ولا شك ستبقى الكلمات والأغاني والألحان محفورة لزمن طويل، بين الأعمدة والهياكل، إذ من الصعب أن يأتي شخص آخر ليحتل هذه المساحة. أقصد أن اليونانيين يحترمون (إن لم نقل يقدسون) مكانهم هذا ولا يسمحون لأي شخص أن يعتليه، من هنا قوة الرمز ـ بالنسبة إلى أهل هذه البلاد ـ في أن تكون فيروز أول فنان عربي يقف بين أركان هذه المساحة التي تخبر عن تاريخ كامل، لا يزال صداه يتردد في الأرجاء.
لكن، ومع ذلك كله، ثمة تعليقات لافتة، كتبتها الصحف اليونانية، قبل يوم الحفل، لا بدّ أن تستوقف، إذ قالت إن حفل فيروز هذا، هو آخر حفل ستقدمه الفنانة في مسيرتها، لأنها قررت اعتزال الظهور على المسرح، وأضافت أن الفنانة الكبيرة كانت قد تلقت عروضاً للمشاركة في عدد من المهرجانات العالمية هذا العام، لكنها رفضتها كلها كي تأتي إلى هنا. من الصعب التأكيد على أخبار مماثلة، كذلك من الصعب عدم التفكير في ألا تكون هذه الأقاويل نوعاً من «دعاية» لجلب العدد الأكبر من المتفرجين. لكن مهما يكن من أمر، إنها المرة الأولى أيضاً التي تمتلئ فيه مدرجات مسرح «هيرود أتيكوس» حتى آخرها. لم يكن هناك أي مكان فارغ حتى لشخص قرر الوقوف. حشد هيستيري لا يمكن إحصاؤه تقدمه العديد من الشخصيات السياسية اليونانية كما الكثير من السفراء العرب، وبالطبع الألوف من المشاهدين الذين مسّهم تيار سحري حين ظهرت فيروز على المسرح. كان من المفترض أن تبدأ الغناء في الثامنة والنصف، كما كان مقرراً، لكنها لم تبدأ إلا بعد ساعة، في التاسعة والنصف، بسبب هذا الحشد الذي لم يستطع الوصول إلى أمكنته، على الرغم من أن المسرح يملك أكثر من أربعة مداخل ـ مخارج.
تحيات وحضور
في أي حال، لم يكن للتأخير أي انعكاس سلبي ـ إذا جاز التعبير ـ بل ساهم في زيادة هذا الشوق المرتقب. شوق إضافي ساهم في إشعاله العديد من الأغنيات القديمة مثل «أعطني الناي»، «النبي»، «يا أنا يا أنا»، «شتي يا دني»، «احكيلي عن بلدي»، «بيي راح مع العسكر»... لا أعرف إن كان ثمة حنين ما حاولت فيروز أن تسترجعه في استعادتها لمثل هذه الأغنيات، لكن اللافت أن «الريبرتوار» الذي قدمته كان يعود إلى أغانيها القديمة، تلك التي نجد فيها لعاصي الحضور الوافر. الأغنية الوحيدة من الأغاني التي قدمها لها زياد كانت أغنية «اشتقتلك» (مثلما غنى الكورال «عهدير البوسطة»، والتي كانت الأغنية الافتتاحية، هذا إذا استثنينا بالتأكيد، الأغاني التي قدم لها زياد توزيعاً جديداً وهي كانت عديدة في حفل فيروز اليوناني). ثمة تحية ما لا بد أن نشعر بها في استعادتها لأغانيها القديمة، حتى في الفواصل التي غناها الكورال لا بد من أن تذكرنا بنصري شمس الدين ونجيب حنكش ومقاطع من حوارات مسرحية «فخر الدين». هل أرادت فيروز في هذه الخيارات أن تذكرنا بلبنان آخر كان ممكن الحدوث؟ لم تغنِ لبنان اليوم، أقصد هذه الأغاني التي جاءت بعد فترة الحرب، ولم تغنِّ «الحب الجديد» الذي عرفناه في «ألبوماتها» الأخيرة، بل كان ذاك الحب القديم الذي عشقناه في «حبيتك بالصيف» و«أمي نامت عبكير» و«يا قمر يا قمر...» ولبنان كان ذاك الوطن الذي ظهر في أغاني من مثل «أرزتنا اللبنانيي» و«عم يركضوا الاولاد»...
في هذا الفاصل تحرك صوت فيروز في مداه «الإغريقي» النابع من «حضارة صوت» قلّ أن نجد لها مثيلاً راهناً. لا يزال هذا النقاء يملك صفاءه الأعمق الذي يقود إلى دواخل لا ينجح أحد في أخذك إليها سوى فيروز. دواخل كانت تشتعل عند الحضور عبر مرافقة بعض الأغنيات بالتصفيق، وعبر الصراخ أحياناً باسم فيروز حيث كانت الأصوات تهدر في مدرجات ومسرح وهياكل ستتذكر دوماً أن فيروز «مرت من هنا»، بالأحرى كأنها كانت هنا دوماً، لكنها ظهرت اليوم مثل ساحرات المعابد التي تحدثت الأساطير اليونانية القديمة عنها.
سحر كان له بأن يكتمل في هذه العودات المتعددة. لم يتوقف الجمهور عن المطالبة بعودتها إلى المسرح كلما انتهت، وكانت تعود إما للتحية وإما لغناء مقطع يزيد الحماسة والسُكرِ. سُكرٌ لأكثر من ساعتين (بدون فاصل الاستراحة) لم نشعر به، مثلما لم نشعر كيف كنا نصفق ونصرخ بحماسة، ما جعل الفتاة الكويتية، الجالسة أمامي، تقول لي بعد الحفل «كل هذا وأنت لا تحب فيروز، ماذا كنت لتفعل لو كنت تحبها؟»... هل بالفعل صدقت «المزحة» منذ البداية أم انتبهت إلى هذه اللعبة وانساقت بها؟ لا أهمية لمثل هذه الأجوبة. الأهم أن فيروز احتلت أثينا في هذه الليلة.

جريدة السفير


No comments: